مقال
د. باســــم عـــادل
* كاتب المقال طبيب وأديب ومفكر مصري وعضو باتحاد كتاب مصر والكتاب العرب
الذين يرون أن مصر تمر بظروف شديدة الصعوبة في الوقت الحالي، تحيد نظرتهم بلا شك عن التحليل الدقيق لأبواب التاريخ القديم والحديث والتي شكلت بالطبع قالبا من التحديات الكفيلة بعرقلة حركة التنمية والتقدم والسير بخطى واثقة نحو المستقبل، ويشتد الانحراف في التقييم والتقدير إذا أقيمت المقارنات بين وضع مصر الحالي ووضع بعض الدول الأخرى وخاصة في منطقة الشرق الأوسط، وقد أعني بذلك دول الخليج العربي، أو دولا أخرى خارج منطقة الشرق الأوسط ، وعلى سبيل المثال النمور الآسيوية الأربعة كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة وهونغ كونغ، فقد شهدت اقتصاديات تلك الدول في الفترة ما بين أوائل الستينيات وحتى حقبة التسعينيات، قفزة اقتصادية وعمليات تصنيع سريعة وحققت معدلات نمو عالية بشكل استثنائي تجاوزت 7 % سنويا.
إن البناء التنموي والاقتصادي الحالي في مصر لم يتحرر بعد من آثار تاريخ طويل ومتخم بسجل الصراع الذي أجبرت مصر عليه، وهي أيضا مجبرة أن تصنع المستقبل بالقضاء على تبعات هذا التاريخ، فقد عانت مصر من صراع الهيمنة ومحاولات القوى العظمى في الشرق والغرب لضم مصر إلى صفوف الولاء والتبعية، وفي هذا تستخدم دائما سياسة العصا والجزرة لترويضها ومحاولة أن ترضخ دائما للسير في الطريق المرسوم لها، وهو الأشبه بالبناء فوق سطح الماء أو على أرض مهددة بهزات الزلازل المتعاقبة، وهذا بلا شك ما لم تتعرض له دول كثيرة أخرى تقارن بها مصر الآن في مسار التنمية والتقدم في مؤشرات جودة الحياة.
ومصر أيضا بحكم موقعها الجغرافي الذي يمثل مركز العالم كانت في مهب رياح الحروب الإقليمية أو العالمية، بل أيضا لم تسلم من دواعي الحرب الباردة بين القطبين الأعظم في العالم في القرن الماضي وأعني الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، وقد كان للخلاف المذهبي بين القطبين أثره البالغ في تعميق حجم الخلاف بينهما، وفي ظهور متغير جديد لعب دورا مرموقا في الصراع الدولي، ألا وهو العامل الأيديولوجي، فقد أدى ذلك الخلاف المذهبي إلى انقسام دول العالم المتقدم إلى كتلتين رئيسيتين، ولجأ كل من القطبين إلى الصراع مع الآخر على أرض العالم الثالث، ومحاولة فرض الأحلاف، والولاءات الإجبارية، ووقعت مصر في مضمار الصراع بين القوتين الأعظم في العالم باعتبارها الدولة القائدة والريادية في العالم العربي والإسلامي بل في الشرق الأوسط كله، وذلك بناء على أهمية موقعها الجغرافي وكتلتها السكانية الكثيفة، وتأثيرها الحضاري والثقافي التلقائي على الشعوب من حولها أو تلك التي تسطع عليها شمس مصر السياسية والأيديولوجية والثقافية والتنويرية، وفي الوقت الذي تحررت فيه مصر من الاحتلال البريطاني نهائيا عام 1952، وحصلت على استقلالها التام لأول مرة بعد نحو ثلاثة آلاف عام تقريبا من الوقوع تحت هيمنة الاحتلال منذ عهود مصر القديمة وحتى الخمسينيات من القرن الماضي، نجد أنها وقعت ضحية للحرب الباردة بين القطبين الأعظم في العالم، فذاقت توابع هيمنة المساعدات الاقتصادية والعسكرية إحدى أهم وسائل خطة العصا والجزرة، ثم عانت من تضارب المصالح مع دول العالم المنقسم إلى كتلتين بفعل واقع الأحلاف التي أقيمت كوسيلة من وسائل الحرب، ثم استخدام الدعاية الإعلامية بكل أنواعها لمحاولة التأثير على العقل الجمعي في مصر، ومرورا بالحروب الإقليمية والسيطرة التكنولوجية.
ولا ينبغي أيضا أن ننسى الحروب التي واجهتها مصر منفردة للدفاع عن أرضها أو للدفاع عن العالم العربي والقضية الفلسطينية التي تحملت مصر أعباءها منذ بذرتها الأولى، وقد يظهر من فصول التاريخ أن مصر تطوعت بهذا الدور في المناداة بحق الفلسطينيين في وطنهم المستقل، لكن الحقيقة أن مصر باعتبارها الإقليمي والريادي لم يكن هناك غيرها من يتحمل هذا العبء، ولو تنصلت عنه لأصبح العالم العربي كله اليوم تحت قبضة الاحتلال.
ومن غير الممكن أيضا أن نغفل دور مصر في نهضة الدول العربية وبناء قواعدها الأساسية نحو التنمية، وإذا كان ذلك الدور مدفوعا – كما يتردد الآن – في صورة رواتب العاملين المصريين في دول العالم العربي وبالأخص دول الخليج العربي، والذين ساهموا بدور أساسي في بناء النهضة التعليمية والإدارية والقانونية والطبية والهندسية وغيرها في كافة المجالات في تلك الدول، فإن مصر قامت أيضا بأدوار جسيمة بلا مقابل و من واقع ريادتها ومسئوليتها الأولى في العالم العربي والشرق الأوسط.
المقارنة هنا قد تبدو خاطئة وغير عادلة، بين دول تدخل خزائنها كل صباح مليارات الدولارات بفعل ثرواتها البترولية، وبين دولة تعيد بناء نفسها بعد احتلال طويل وفي نفس الوقت تحارب وتقاتل من أجل استقرار الشرق الأوسط، وأيضا من أجل الحفاظ على امتيازات موقعها الجغرافي ودورها المحوري وأهم خطوط هذا الدفاع هو الحفاظ على وحدتها وإنقاذها من مخططات التقسيم وتداعيات الإرهاب.
وبيت القصيد… إن مصر في طريق البناء والتنمية الاقتصادية الحالية، إنما تسدد فاتورة الماضي مع أعباء الحاضر، ولا شك في أن في تكلفة كل خطوة جديدة نحو المستقبل، تكلفة مضافة لمحو آثار خطوة من الماضي القديم!